التربية الأمنية في حياة رسول الله
قصة إسلام عمرو بن عبسة
تأتي
روايات قيمة تبين لنا الحذر النبوي، وكيف
تأثر الصحابة
بمنهجية رسول الله
في التربية الأمنيّة لأصحابه:
سمع عمرو
بن عبسة
بأمر رسول الله
،
وعمرو بن عبسة من قبيلة أسلم، وهو ليس من
أهل مكة، وكونه سمع بأمر الرسول
من بعيد فهذا يدل على أن سماع عمرو بن
عبسة بأمر رسول الله
كان متأخرًا، بعد إعلان رسول الله
لأمر الدعوة. يقول عمرو بن عبسة
:
"فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول
الله
مستخفيًا" (أي أن الرسول
لم يكن يُعلِّم أصحابه علانية، بل يستخفي
في تربيتهم، ولكنه لم يكن يستخفي بدعوته
للعامة، بل كان يحدثهم في بيت الله الحرام،
هذا طبعًا بعد إعلان الرسول
للدعوة). يقول عمرو بن عبسة
يصف حال الرسول
:
"جُرَآءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ".
وهذا دليل
أيضًا على أنه بعد الإعلان؛ لأن قريشًا لم
تكن تؤذي الرسول
قبل إعلان دعوته.
يقول عمرو
بن عبسة: "فتلطفت (توجهت إليه سرًّا) حتى
دخلت عليه مكة، فقلت له: ما أنت؟ قال:
أَنَا نَبِيٌّ.
فقلت: وما نبي؟ قال:
أَرْسَلَنِي اللَّهُ.
فقلت: وبأي
شيء أرسلك؟ قال:
أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ،
وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدُ
اللَّهَ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ.
قلت له: فمن معك على هذا؟ (وكان مع النبي
في ذلك الوقت أكثر من ستين صحابيًّا) فقال:
حُرٌّ وَعَبْدٌ. يقول عمرو بن عبسة:
ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. (أراد
رسول الله
أن يأخذ بالحيطة والحذر، فلا يخبر عن بقية
أصحابه إلى أن يستوثق من أمر عمرو بن عبسة،
وخاصة أن عَمْرًا ليس من مكة، وتاريخه
مجهول بالنسبة للرسول
،
لكن من المؤكد في هذه المرحلة من الدعوة
أن الرسول
كان معه عدد كبير من الصحابة جاوز الستين،
ومن المؤكد أيضًا أن هناك الكثير قد أسلم
قبل بلال، لكنه آثر التكتم والحذر، مع أنه
لو أخبر عمرًا أن معه عددًا كبيرًا فقد
يكون هذا دافعًا له للإيمان، ولكن
الاحتياطات الأمنية عند رسول الله
تسبق كثرة الأنصار والأتباع).
ومع أنه
قال له: معي حر وعبد، إلا أن الله
ألقى الإسلام في قلب عمرو بن عبسة
فقال: إني متبعك (يقصد أنه سيبقى معه في
مكة ويتبعه على الإسلام). لكن رسول الله
الفقيه بأمور المرحلة الحساسة التي تمر
بها الدعوة قال له: "إِنَّكَ
لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلاَ
تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسَ، وَلَكِنِ
ارْجِعْ إلى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ
بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي".
إنه
فقه عالٍ جدًّا، كان من الممكن أن يفرح
الرسول
بإسلامه، ويضمه إلى جماعته، ولكن عمرو بن
عبسة ليس من مكة، وسوف يُضْطهد أشد
الاضطهاد، ولا يدافع عنه أحد، فهنا يضحي
رسول الله
بالنصرة التي ستأتي من وراء عمرو ببقائه،
ويضحي أيضًا بالعلم الذي قد يحصله عمرو
ببقائه في مكة نظير أن يُؤَمِّن حياة عمرو،
ويحفظه لمرحلة قادمة قد تكون الدعوة أحوج
إليه.
كما أن
عَمْرًا عندما يذهب إلى قبيلته أسلم، فإنه
-ولا شك- سيحدّث أهله وأحبابه هناك بأمر
الإسلام، وسيأتي بأقوام كان من الصعب على
رسول الله
أن يصل إليهم في هذه المرحلة، فهذا أدعى
إلى انتشار الإسلام في وقت أسرع.
كل هذه
التدابير لا تنافي مطلقًا إيمان رسول الله
التام بالقدر، وأن ما أصابه ما كان ليخطئه،
وما أخطأه ما كان ليصيبه، ولكنه يأخذ
بالأسباب، ويعلمنا كيف نأخذ بالأسباب في
كل مرحلة من مراحل الدعوة، وقد عاد فعلاً
عمرو بن عبسة إلى قومه، إلى قبيلة أسلم،
وكان له دور كبير في إسلام أفرادها، وأتى
إلى رسول الله
في المدينة عندما ظهر أمر رسول الله
هناك، فانظر إلى عمرو بن عبسة
كيف حول نقطة الضعف عنده -وهي أنه ليس
مجيرًا أو نصيرًا في مكة- إلى نقطة قوة
للدعوة، فعمل في مكان آخر حتى حان وقت
الالتقاء برسول الله
في المدينة، وهكذا الداعية الصادق لا يعرف
الفتور ولا السكون ولا الراحة.
قصة إسلام أبي ذر
الغفاري
وشبيه بقصة
عمرو بن عبسة
ما حدث مع أبي ذر الغفاري
.
وأبو ذر
هو جندب بن جنادة من قبيلة غفار، وهي
قبيلة أيضًا خارج مكة، وأيضًا هو رجل غير
معروف بمكة ومن ثَمَّ فلا يُؤْمن جانبه،
ولا يمكن كشف أوراق المسلمين كلها أمامه،
وفوق ذلك فهو من قبيلة اشتهرت بقطع الطريق
فوضعه من الخطورة بمكان.
سمع أبو ذر
بأمر رسول الله
فجاء إلى مكة يسأل عن رسول الله
،
وجلس فترة في بيت الله الحرام ينتظر
الفرصة ليقابل رسول الله
،
وكان واضحًا أن الرسول
لا يجلس مع أصحابه علنًا وإلا ذهب إليه
مباشرة، فجلس أبو ذر ينتظر.
كان علي بن
أبي طالب
قد أصبح شابًّا، مما يدل على أن هذه
الرواية كانت بعد البعثة بست أو سبع سنين
على الأقل، ولكن كانت التربية ما زالت
سرية، فعندما رأى علي بن أبي طالب
أبا ذر الغفاري
علم أنه غريب، وقد شك علي بن أبي طالب
في أمر الرجل، أتراه جاء يسأل عن الإسلام،
أم هو عين على رسول الله
وأصحابه؟
في البداية
لم يسأله عليٌّ عن شيء، وإنما مر عليه فقط
دون كلام، وهكذا مرَّ اليوم الأول والثاني،
وفي اليوم الثالث ذهب إليه وكلمه قائلاً
له: ألم يجد الرجل حاجته بعد؟ ثم أخذه معه
إلى بيته وضيفه وعاد به إلى الحرم، دون أن
يسأله عن شيء، علي بن أبي طالب
يأخذ جانب الحذر لكن يريد أن يعطي أبا ذر
الأمان حتى يتكلم بحرية، وأحس أبو ذر
بالأمان ناحية علي بن أبي طالب، فسأله عن
رسول الله
،
وأحس علي بن أبي طالب بالصدق في لهجة أبي
ذر، فقرر أن يأخذه إلى رسول الله
،
ولكنه أراد ألا يراهم أحد حتى لا يتم
تتبعهم، ويُعرف مكان رسول الله
الذي سيجتمع فيه مع أبي ذر، فتأتي قريش
وتفسد اللقاء، أو تعرف بإسلام أبي ذر
وتؤذيه، والرجل ليس من أهل مكة، فأخذه علي
بن أبي طالب في خفية وحذر، ولم يمش إلى
جانبه، بل سار أمامه وجعل أبا ذر يتبعه من
بعيد، ثم قال له كلمة توضح حذره واحتياطه.
قال علي:
"إن رأيتُ شيئًا أخاف عليك، قمت كأني
أريق الماء" (أي أتبول). وفي رواية: "كأني
أصلح نعلي".
فلو رأى
أبو ذر ذلك فليمض في طريقه ولا يتبع عليًّا؛
لأن الظروف لن تكون مواتية. وسار بالفعل
علي بن أبي طالب
،
وسار خلفه أبو ذر
حتى ذهبوا إلى رسول الله
،
أين ذهب علي بأبي ذر؟ لقد ذهب به إلى
مقابلة رسول الله
في البيت الحرام أثناء الطواف ليلاً، لم
يذهب به إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم فهو
لم يطمئن إليه بعدُ، وفي الوقت ذاته فإن
اللقاء في الليل يقلل من فرصة اكتشاف
الموعد.
وعندما
قابل رسول الله
أبا ذر سأله أولاً:
مِنْ أَيْنَ؟ فقال أبو ذر: من غفار.
فهنا شعر الرسول
بالقلق، فغفار قبيلة قطاع طرق، وقد يكون
أمر أبي ذر غير مأمون، وبلغ القلق برسول
الله
أن وضع يده على وجهه، حتى قال أبو ذر:
فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار.
لكن على كل حال، بَلَّغه الرسول
الدعوة وعلمه الإسلام، فهو لم يكن يترك
أحدًا أبدًا دون دعوة، وسبحان الله! أسلم
أبو ذر
ليتحول مجرى حياته مائة وثمانين درجة،
وليصبح بدلاً من الرجل المجهول المنتمي
إلى قبيلة قطاع الطرق، يصبح الرجل الصحابي
الجليل أبا ذر الغفاري
.
وهنا أمره
رسول الله
كما أمر بذلك عمرو بن عبسة
بالتكتم والتخفي، لكن في اليوم الثاني،
ومن شدة فرح أبي ذر بالدين الجديد، ومن
شدة حماسته لنشره، وقف في وسط البيت
الحرام يعلن إسلامه ويدعو الناس إليه،
وهذا عكس ما أراد الرسول
لأنه ليس وقت المواجهة، وأبو ذر
رجل وحيد، وخسارته لن تقدم الدعوة، ولن
تصيب الكافرين، وحدث ما كان يخشاه رسول
الله
واجتمع أهل مكة على أبي ذر يضربونه، حتى
أخبرهم أحد الرجال أنه من قبيلة غفار،
وأنهم لو علموا بضربه في مكة فسيقطعون
الطريق على قوافل قريش، فعندها كف القوم
عن ضربه.
عاد أبو ذر
إلى قبيلته كما أمره الرسول
ودعا فيها بدعوة الإسلام وكانت دعوته شاقة
جدًّا، فهو يدعو في مجموعة من اللصوص
وقطاع الطريق، ولكن الله
شاء لهم الهداية، وشاء له التوفيق، فآمنت
نصف غفار وجاء بها أبو ذر إلى المدينة بعد
الهجرة، وسُرّ بها رسول الله
سرورًا عظيمًا حتى قال
:
"غِفَارٌ غَفَرَ
اللَّهُ لَهَا".
التربية الأمنية في
دار الأرقم بن أبي الأرقم
من مظاهر
السرية العجيبة في ذلك الوقت أيضًا اجتماع
الرسول
والصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم
ثلاث عشرة سنة دون أن يكتشف أمرهم.
مكة بلد
صغير، وصغير جدًّا، وأهلها جميعًا يعرف
بعضهم بعضًا، فكيف يأخذ المسلمون الحذر
حتى لا يعرف أحدٌ مكانهم بهذه الصورة
العجيبة، إنه حقًّا أمر يدعو إلى الدهشة،
فلم نسمع عن مداهمة واحدة من كفار قريش
للمسلمين في دار الأرقم.
ولعل سائلاً
يسأل: لماذا دار الأرقم بن أبي الأرقم
بالذات؟ لماذا لم يجتمعوا في بيت رسول
الله
أو في بيت أحد الصحابة الآخرين؟
إن التفكر
في هذا الأمر يوضح لنا مدى الفقه الأمني
عند رسول الله
،
ومدى الوعي والفهم العميق لظروف المكان
الذي يمارس فيه الرسول
دعوته.
أولاً:
الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فلن تتم
مراقبة بيته من قريش، أما الرسول
أو الصحابة الذين اكتشف أمرهم فلا تصلح
بيوتهم لهذا الأمر.
ثانيًا:
الأرقم من بني مخزوم، وهي القبيلة
المتنازعة دائمًا مع بني هاشم، فرسول الله
وكأنه يجتمع في عقر دار العدو، ولن يخطر
ذلك أبدًا على أذهان زعماء أهل مكة.
ثالثًا:
الأرقم كان بيته بعيدًا عند الصفا، لم يكن
في قلب المدينة، ولم يكن هناك كثير من
المارة في هذه المنطقة. ولم يكن هناك بيوت
كثيرة حول بيت الأرقم يمكن أن يستخدمها
أهل قريش للمراقبة.
رابعًا:
الأرقم كان يبلغ من العمر ستة عشر عامًا
فقط -الصف الأول أو الثاني من المرحلة
الثانوية- فهو شاب صغير ولن يشك فيه أهل
مكة، قد يعتقد أهل مكة أن الرسول
سيعقد اجتماعاته في بيت رجل من كبار
صحابته، في بيت أبي بكر الصديق، أو في بيت
عثمان بن عفان، أو في بيت عبد الرحمن بن
عوف، ولم يكن يدور بخلدهم أن تكون تلك
الاجتماعات الخطيرة في بيت هذا الشاب
الصغير، هذا احتمال بعيد جدًّا عن أذهان
أهل قريش.
وسبحان
الله! الإنسان يتعجب من قوة بأس الأرقم
الذي أخذ على عاتقه هذه المهمة الخطيرة
للغاية، أن يجعل من بيته مقرًّا لاجتماعات
الرسول
وأصحابه، مع العلم أنه لو اكتشف أمره فقد
تكون نهايته، وبالذات أن زعيم بني مخزوم (قبيلة
الأرقم) هو أبو جهل -لعنه الله- فرعون
الأمة، وأعتى أهل قريش على المسلمين، فرضي
الله عنك يا أرقم، وجزاك عن الإسلام
والمسلمين خيرًا.
د. راغب السرجاني
|
- Blogger Comment
- Facebook Comment
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات:
إرسال تعليق