علم أسباب النزول
أ. طاهر العتباني
أُنزِل القرآنُ على النبي -صلى
الله عليه وسلم- لهداية البشرية، وكان نزولُه أولَ
ما نزل في ليلة القدر، وقيل: إنه نزل مِنَ اللوح المحفوظ
إلى بيت العِزَّة في السماءِ الدنيا في هذه الليلة، ثم صار
يَنزل مُفرّقًا على مَدار ثلاثٍ وعشرين سنة، فكان منه
المكيُّ والمدنيُّ، وكان يتنَزَّل على حسَب الوقائع
والأسباب، وكان الصحابةُ يَعلَمون أسبابَ النزول ويحفظونها
وينقلونها تراثًا ثَرًّا للأجيال، يُعينهم على فهم القرآن
وتفسيره واستنباط الأحكام منه، فكان نزولُ القرآن منجَّمًا
تثبيتًا لقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقلوبِ
صحابته، كما كان تنجيمُ القرآن لتحدِّي المشركين ولإعجازهم،
كما كان تيسيرًا لفهمه وعونًا على تفسيره.
على أنَّ مِن أعظم الحِكَمِ
وراءَ تنجيمِ القرآن التدرجَ في التشريع في حركة المسلمين
بدينهم خطوةً خطوةً، ومرحلة مرحلة، حتى يتكامل بُنيانُ
التشريع من خلال نزول القرآن مع كل حدثٍ وكل مناسبةٍ نزل
فيها مُعلّمًا ومُرشدًا ومشرّعًا للأحكام.
وفي هذا المبحث نتناول تقسيم
نزول القرآن إلى مكي ومدني، وأسباب النزول، في مطلبين:
المطلب الأول: المكي والمدني:
عُنِيَ
العلماءُ بتحقيق المكي والمدني عنايةً كبيرة، فتتبعوا
القرآنَ سورةً سورةً، وآيةً آيةً؛ ليميزوا المكي والمدني؛
لترتيب القرآن وَفْقَ نزولِه مُراعين في ذلك الزمانَ
والمكان والخطاب، ومن هذا الجهد الكبير في تتبع نزول
القرآن تَكَوَّن علمُ المكي والمدني في القرآن، وفي إطار
هذا الجهد قسموا القرآن إلى قسمين كبيرين هما المكي
والمدني.
وأضافوا إلى ذلك تفريعات عدة
فصار تقسيمهم على النحو التالي:
1- ما نزل بمكة
2- ما نزل بالمدينة
3- ما اختلف فيه
4- ما نزل بمكة وحكمه
مدني
5- ما نزل بالمدينة
وحكمه مكي
6- الآيات المكية في
السور المدنية
7- الآيات المدنية في
السور المكية
إلى غير ذلك
من الأقسام والتفريعات في علم المكي والمدني.
ونحن ندعو
القارئَ إلى تتبُّع هذا العلم في بحوث علوم القرآن على
التفصيل المطلوب، ولكننا نشير هنا إشاراتٍ إلى بعض الأمور
المتعلقة بالمكي والمدني مما يُحتاج إليه في استنباط
الأحكام.
الفرق بين المكي والمدني:
اعتمد العلماء في معرفة
المكي والمدني على منهجين:
المنهج الأول: هو
المنهجُ السَّماعي النَّقْلي، وهو يستند إلى علم الرواية
وما نُقل عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ما نُقل
عن التابعين الذين أخذوا ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.
المنهج الثاني: هو
المنهج القياسي الاجتهادي، وهو يعتمد على استقراء خصائصِ
كلٍّ مِن القرآن المكي والمدني، وتمييزِ السور المكية من
السور المدنية؛ بناءً على استقراء هذه الخصائص والسمات في
السور والآيات.
وللعلماء في التفريق بين
المكي والمدني ثلاثة آراء:
الرأي الأول: اعتبار
المخاطَب بالقرآن؛ فالقرآن المكي ما كان خطابًا لأهل مكة،
والقرآن المدني ما كان خطابًا لأهل المدينة، فما كان
خطابًا لأهل مكة يكون الخطاب فيه مرتكزًا على قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
﴾ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [فاطر: 5].
وما كان
الخطاب فيه مرتكزًا على قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا ﴾ فيكون لأهل المدينة كما في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
* وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ
هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
﴾[الحج: 77، 78].
الرأي الثاني: اعتبار
زمن النزول؛ فالمكي ما نزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة،
والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة.
الرأي الثالث: اعتبار
مكان النزول؛ فالمكي ما نزل بمكة وما جاورها كمنى وعرفات
والحديبية، والمدني ما نزل بالمدينة وما جاورها كأحد وقباء
وسلع، وما كان خارجًا عن ذلك لا يقال له مكي أو مدني
ومن خلال هذه
العلامات للمكي والمدني وضع العلماء ضوابط وخصائص لكل من
المكي والمدني:
أولا: ضوابط المكي:
1- كل سورة فيها سجدة
فهي مكية في الأغلب إلا في سورة الحج.
2- كل سورة فيها (كلا)
فهي مكية.
3- كل سورة فيها: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
﴾ وليس فيها: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فهي مكية.
4- كل سورة فيها ذكر
الأمم الغابرة وقصص السابقين من الأنبياء فهي مكية، ما عدا
سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة.
5- كل سورة تفتتح
بالحروف المقطعة فهي مكية، ما عدا الزهراوين: البقرة وآل
عمران.
6- القرآن المكي
يتحدث عن توحيد الله وتنزيهه وإثبات الرسالة، والحديث عن
القيامة ومشاهدها والجنة والنار.
7- يقوم القرآن المكي
على وضع أسس التشريع العامة وبيان الأخلاق والفضائل وليس
فيه بيان الشرائع مفصلة.
8- الفواصل في السور
المكية قصيرة موجزة العبارة قوية الجرس.
ثانيا: ضوابط المدني
1- كل سورة فيها
فريضة أو حد فهي مدنية.
2- كل سورة فيها ذكر
المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت.
3- كل سورة فيها
مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية.
4- في السور المدنية
بيان العبادات والمعاملات والمواريث وتشريعات الأسرة
والجهاد وقواعد الحكم
5- طول فواصل الآيات
وطول المقاطع بيانًا لتفصيلات التشريعات.
المطلب الثاني: علم أسباب
النزول
اعتنى العلماء
في علوم القرآن بعلم أسباب النزول، وذلك للاستعانة به على
تفسير القرآن الكريم، وألف فيه جماعة من العلماء، ومن أشهر
الكتب فيه:
• أسباب النزول
للواحدي.
• لباب النقول في
أسباب النزول للسيوطي.
ويعتمد
العلماء في معرفة أسباب النزول على صحة الرواية عن رسول
الله –صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة، ويرون أنه لا
يحل القولُ في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن
شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب.
ويرى أهل العلم أن القرآن
نزل على قسمين:
1- قسم نزل ابتداء.
2- قسم نزل عقب واقعة
أو سؤال.
ويُعرَّف سببُ النزول بأنه:
ما نزل قرآنٌ بشأنه وقتَ وقوعِه؛ كحادثةٍ أو سؤال، وفي هذا
المطلب نتحدث في فرعين حول موضوعين يتعلقان بأسباب النزول
وهما:
• فوائد معرفة أسباب
النزول.
• العمل إذا تعددت
الروايات في سبب النزول.
وكلا
الموضوعين له تعلق واتصال باستنباط الأحكام من الآيات
الفرع الأول: فوائد معرفة
سبب النزول:
لمعرفة أسباب النزول فوائد
منها:
أولا: بيان الحكمة
التي كانت وراء تشريع حكم من الأحكام، وإدراك مراعاة الشرع
للمصالح العامة في علاج الحوادث رحمة بالأمة.
وتظهر الحكمة
جلية مثلا في آيات المواريث من سورة النساء.
عن جابر قال:
جاءت امرأةُ سعد بن الربيع إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا
سعد بن الربيع، قُتل أبوهما معك في أُحد شهيدًا، وإنَّ
عمَّهما أخذ مالَهما فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا
بمال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آيةُ المواريث. فأرسل
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: "أعط ابنتي
سعد الثلثين وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك"، رواه الخمسة
إلا النسائي.
فسببُ نزول هذه الآيات في
الميراث يُبيّن الحكمةَ في تشريع الميراث، والحكمةَ
من جعل نصيب للبنت، وهو ما لم يكن معهودًا في الجاهلية،
فلم تكن العربُ تعطي للنساء شيئًا من الميراث، فجاء
الإسلامُ فأصلح هذا الوضع المعوجَّ الذي تُظلم المرأة فيه،
وتَبيَّنتِ الحكمةُ من أن النساء لهن نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون كالرجال تمامًا وإن اختلفت الأنصبة.
ثانيا: تخصيص حكم ما
نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى العبرة بخصوص
السبب لا بعموم اللفظ، وقد مُثّل لهذا بقوله تعالى: ﴿
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ
مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل
عمران: 188].
روى البخاري
ومسلم أن مروان بن الحكم قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن
عباس، فقل: لئن كان كلُّ امرئ فَرِحَ بما أتى وأحب أن
يُحمد بما لم يفعل معذبًا لنُعذَّبنَّ أجمعون، قال ابن
عباس: وما لكم ولهذه؟
إنما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهود، فسألهم عن
شيء، فأخبروه بغيره، فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما
أخبروه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم. متفق عليه.
وفيها سبب آخر ذكره السيوطي
في لباب النقول؛ قال: أخرج عبدُ بن حميد في تفسيره
عن زيد بن أسلم أن رافعَ بن خَدِيج وزيدَ بن ثابت كانا عند
مروان، فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت الآية: ﴿
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ﴾، قال رافع: أنزلت في
أناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي -صلى الله عليه
وسلم- اعتذروا، وقالوا: ما حبسنا معكم إلا شغل، فلوَدِدْنا
أنا كنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وكأن مروان
أنكر ذلك، فخرج رافع من ذلك، فقال لزيد بن ثابت: أنشدك
الله، هل تعلم ما أقول به؟
قال: نعم. [لباب النقول: 62- 63].
ففي هذا
المثال يتضح أن سبب النزول قد يُخصص معنى الآية.
ثالثا: معرفة سبب
النزول خير سبيل لفهم معاني القرآن، وكشف الغموض الذي
يكتنف معاني بعض الآيات في تفسيرها.
وبعضُ الآيات
لا يمكن الكشفُ الجلي عن معناها وتفسيرها ما لم يراجع سببُ
النزول؛ ذلك أن العلم بالسبب يُورث العلم بالمسبب، ومن
أمثلة ذلك ما ورد في الفقرة الماضية من تفسير قوله تعالى:
﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾، فقد كشف ابنُ عباس ببيان
سبب النزول عن معنى الآية.
ومن أمثلة ذلك
أيضًا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ
اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
قال أهل
العلم: ظاهر الآية لا يقتضي أن السعي فرض في الحج والعمرة؛
لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الوجوب ومن هنا تمسك
الإمام أبو حنيفة بذلك، فهو يرى أن السعي بين الصفا
والمروة واجبٌ وليس بركن، وعلى تاركه دم.
ولكن مراجعة
سبب النزول يبين معنى الآية، ويبين أن السعي بين الصفا
والمروة ركن من أركان الحج والعمرة.
روى البخاري
ومسلم عن عروة: سألت عائشة، قلت: أرأيت قول الله تعالى:
"إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر
فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، قلتُ: فوالله ما على أحدٍ
جناحٌ أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشةُ: بِئسَما قلتَ يا ابن
أختي، إنها لو كانت على ما أولتها عليه، كانت: ﴿
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾، ولكنها إنما أنزلت أن
الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهلون لِمَنَاةَ
الطاغيةِ التي كانوا يعبدونها في الجاهلية، وكان من أهلَّ
لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا
نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز
وجل: ﴿ إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ إلى قوله:
﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، قالت عائشة: ثم قد سن رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم الطوافَ بهما، فليس لأحد أن يدع
الطواف بهما. متفق عليه.
رابعا: يوضح سببُ
النزول مَن نزلت فيه الآية، حتى لا تحمل على غيره بدافع
الجدل والخصومة؛ فعن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية
لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن
أبي بكر: سنة هرقل وقيصر. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله
فيه: ﴿ وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ﴾ الآية [الأحقاف:
17]، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان! والله ما هو به،
ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته. رواه النسائي.
الفرع الثاني: تعدد الروايات
في سبب النزول
سبب النزول إما أن تكون
صيغته صريحةً في السببية، وإما أن تكون صيغته محتملة:
• فتكون نصًّا في
السببية إذا قال الراوي: سبب نزول هذه الآية كذا.
• وتكون نصًّا في
السببية إذا أتى بفاء دالة على التعقيب داخلة على مادة
النزول بعد ذكر الحادثة أو السؤال. كما إذا قال: حدث كذا،
أو سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا، فأنزل أو
فنزلت آية كذا وكذا.
• وتكون الصيغة
محتملة للسببية ولما تضمنته الآية من الأحكام إذا قال
الراوي: نزلت هذه الآية في كذا وكذا، فهنا يراد به سبب
النزول ويراد غيره، كأن يكون مرادًا به معنى الآية.
• وكذلك إذا قال:
أحسب هذه الآية نزلت في كذا وكذا.
• أو إذا قال: ما
أحسب هذه الآية نزلت إلا في كذا؛ فإن الرواية بهذه الصيغة
لا تقطع بالسببية، وإنما تحتملها وتحتمل غيرها كبيان الحكم
من الآية.
مثال ذلك قول
ابن عمر في قوله تعالى: ﴿
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ ﴾ [البقرة: 223]، قال ابن عمر: "أنزلت في
إتيان النساء في أدبارهن". رواه البخاري.
فهي بيان
للحكم وليس من ذكر سبب النزول في شيء، وفي هذه الحالة يكون
قول الصحابي: أنزلت في كذا محتملا للسببية وغيرها.
والعبرة في
هذا وذاك إنما يكون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كان
بيان السبب يساعد على فهم الحكم.
وقد تتعدد
الروايات في سبب نزول آية واحدة.
فما موقف المجتهد من ذلك؟
ذكر أهل العلم أن سبب النزول
إذا تعدد فهناك احتمالات ثلاثة:
1- إما أن يكون
الجميعُ غيرَ صريح في السببية.
2- وإما أن يكون
الجميعُ صريحًا في السببية.
3- وإما أن يكون
البعض صريحًا في السببية والبعض غير صريح.
فإذا كان
الجميع غير صريح في السببية فلا ضرر؛ إذ يحمل الجميع على
أنه تفسير للآية أو بيان للحكم المأخوذ منها.
وإذا كان
بعضُه صريحًا وبعضُه غيرَ صريح، فالمعتمد عند المجتهد هو
الصريح دون غيره.
وإذا كان
الجميع صريحًا، فلا يخلو الأمرُ من أن يكون البعضُ صحيحًا
والبعضُ غير صحيح من جهة السند، فالصحيح الصريح هو
المعتمد.
فإذا كان
الجميعُ صحيحًا صريحًا فيُرجّح الراجح بقرائن، أو يصار إلى
الجمع إن أمكن، أو يحمل على تكرار النزول.
أمثلة:
أولا:
إذا لم تكن
الصيغُ الواردة في سبب النزول صريحةً فلا منافاة بينها؛ إذ
المراد التفسير أو بيان الحكم، وليس المراد سبب النزول إلا
إذا قامت القرينةُ على واحدة منها بأن المراد بها السببية.
ثانيًا:
إذا كانت إحدى
الصيغ غيرَ صريحة وصرح أحدُها بذكر سبب مخالف، فالمعتمد هو
ما نص فيه على السببية، وتُحمل الأخرى على دخولها في أحكام
الآية.
مثال ذلك:
قول جابر:
كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبُرها في
قُبُلها كان الولدُ أحولَ، فنزلت ﴿
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾، رواه
البخاري ومسلم.
فهذه الرواية
هي المعتمدة أما كلام ابن عمر: أنزلت في إتيان النساء في
أدبارهن [رواه البخاري]، فليس بنص في سبب النزول، فيحمل
كلامه على أنه استنباط وتفسير.
ثالثا:
إذا تعددت
الرواياتُ وكانت جميعُها نصًّا في السببية، وكان إسنادُ
أحدها صحيحًا دون غيره فالمعتمد الرواية الصحيحة.
مثال ذلك روايتان في سبب
نزول سورة الضحى:
إحداهما: ما
رواه الشيخان عن جُندَب البَجَلي قال: اشتكى النبي صلى
الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فأتته امرأةٌ
فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم يقربك
ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله ﴿
وَالضُّحَى *
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى *
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 1-3].
رواه الشيخان.
والثانية:
رواها الطبراني: عن حفص بن ميسرة القرشي قال: حدثتني أمي
عن أمها -وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- : أن
جروًا دخل البيت ودخل تحت السرير ومات، فمكث رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم أيامًا لا ينزل عليه الوحي،. فقال:
"يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
جبريل لا يأتيني، فهل حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم حدث؟!"، فقلت: ما أتى علينا يوم خيرٌ من
يومنا، فأخذ برده فلبسه وخرج، فقلت: لو هيأت البيت
وكنسته، فأهويتُ بالمكنسة إلى السرير، فإذا شيء ثقيل فلم
أزل حتى أخرجته، فإذا جرو ميت، فأخذته بيدي فألقيته خلف
الدار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته،
وكان إذا أتى الوحي أخذته الرعدة، فقال: "يا خولة
دثريني"، فأنزل الله عز وجل ﴿
وَالضُّحَى
* وَاللَّيْلِ إِذَا
سَجَى * مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 1-3].
فالرواية
الأولى هي المعتمدة لصحة السند إذ هي في الصحيحين، وأما
رواية الطبراني فضعيفة.
رابعا:
إذا تساوت
الروايات في الصحة، ووُجد وجهٌ من وجوه الترجيح؛ مثلُ حضور
القصة مثلا، أو كونِ أحدهما أصحَّ وإن الأخرى صحيحة، قُدمت
الرواية الأصح.
مثال ذلك
روايتان ذكرتا في سبب نزول: ﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ﴾ [الإسراء: 85].
الرواية الأولى: عن
عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله
عليه وسلم في خرب المدينة، وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر
بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال
بعضهم: لا تسألوه؛ لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم:
لنسألنه، فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟
فسكت، فقلت: إنه يوحى إليه، فقمت، فلما انجلى عنه قال: ﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85].
رواه البخاري.
الرواية الثانية: عن
ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه
هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت ﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾. رواه الترمذي
وصححه.
فهذه الرواية
تقتضي أن الآية نزلت في مكة.
وقد رجح
العلماء ذلك بقرينة وجود ابن مسعود مع رسول الله –صلى الله
عليه وسلم– وشهوده القصة في الرواية الأولى.
ومع هذا فقد
رجح بعضُ أهل العلم الجمع بين الروايتين بأن الآية نزلت
مرتين مرة في مكة ومرة في المدينة.
خامسا:
إذا تساوت
الرواياتُ عند الترجيح جُمع بينهما إن أمكن، فتكون الآية
نزلت بعد السببين أو الأسباب لتقارب الزمن بينهما.
مثال ذلك آيات
اللعان في سورة النور، وهي قوله تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ *
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
* وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
* وَالْخَامِسَةُ
أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ *
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
* وَالْخَامِسَةَ
أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ *
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 4-10].
هذه الآيات ورد في سبب
نزولها روايتان:
الأولى: ما ثبت في
الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن عُوَيمرًا العجلاني قال
لعاصم بن عدي: أرأيتَ لو أن رجلاً وَجَد مع امرأته رجلا
أيقتُله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فسل لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكره رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ وعابها، حتى كبر على
عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن
عويمرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "
قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأتِ بها"، فتلاعنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
الثانية: ما رواه البخاري: أن هلال بن أمية قذف
امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حدٌّ في ظهرك"،
فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدُنا على امرأته رجلاً ينطلق
يلتمس البينة؟ فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البينةُ
وإلا حَدٌّ في ظهرك"، فقال: والذي بعثك بالحق إني لصادق،
ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه
السلام وأنزل عليه: ﴿
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ... ﴾.
الآيات. رواه البخاري.
وقد جمع
العلماءُ بينهما بأن حادثة هلال وقعت أولا، وصادفها مجيء
عويمر كذلك، فنزلت الآيات في شأنهما معًا بعد حادثتيهما.
سادسا:
إن لم يمكن
الجمعُ لتباعد الزمن، فإنه يحمل على تعدد النزول وتكرره.
ومن الآيات
التي ورد فيها أكثرُ من رواية حول سبب النزول وهي روايات
صحيحة: قول الله تعالى: ﴿ مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
﴾ [التوبة: 113].
وقد ورد في سبب نزولها
روايات منها:
الأولى: لما حضرت أبا
طالب الوفاةُ جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فوجد
عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة
أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية:
يا أبا طالب أترغبُ عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى
قال أبو طالب آخرَ ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى
أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل
الله ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...
﴾ الآية. متفق عليه.
الثانية: عن علي قال:
سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر
لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أوليس استغفر إبراهيمُ لأبيه
وهو مشرك؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: ﴿
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ... ﴾
الآية. رواه الترمذي وحسنه.
الثالثة: عن ابن
مسعود قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى
المقابر، فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه
طويلا، ثم بكى فبكينا، فقال: "إن القبر الذي جلست عنده قبر
أمي، وإني استأذنتُ ربي في الدعاء لها، فلم يأذن لي، فأنزل
علي: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ... ﴾ الآية. أخرجه الحاكم.
وقد جمع بين
الروايات الثلاث بتعدد نزول الآية في أكثر من موطن.
ومع ذلك يرى
بعضُ أهل العلم أن الترجيح بين الروايات أولى من القول
بتعدد نزول الآية.
|
- Blogger Comment
- Facebook Comment
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات:
إرسال تعليق